كلمات حفل إطلاق كتاب "طلّ وشرر" للدكتور رغيد النحّاس

تمّ يوم العاشر من من تشرين الثاني/نوفمبر 2013 إطلاق كتاب "طلّ وشرر" للدكتور رغيد النحّاس في قاعة جمعية كفرحلدا في ضاحية لاكمبا، سيدني، أستراليا.
نسّق الاحتفال الدكتور إميل شدياق الذي قدّم المتكلمين واحداً تلو الآخر، بعد تعليقه على العمل بفقرة قصيرة يستشهد فيها بنبذات من الكتاب، وكان في تعليقاته المُحكمة كنحّات في فسيفساء الكلمة، يستنبط ما هو دالّ ومفيد.
افتتح الاحتفال الأستاذ إيلي ناصيف، رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، راعية الحفل، فأشاد بالعمل وركّز على الدور الهام الذي تقوم به الرابطة، ورسالتها في دعم الفكر العربي. وظهر من كلامه حرصه على المضي في تعزيز مكانة الرابطة وتقدمها.
ثم توالى على الكلام كلّ من الشاعر شوقي مسلماني، والأستاذ جورج الهاشم، والإعلاميّة شادية الحاج، وختاماً المؤلف. وتبع ذلك "كوكتيل" تمّ خلاله توقيع الكتاب، وتبادل الحديث بين المشاركين. وفيما يلي نصوص الكلمات.

كلمة الشاعر شوقي مسلماني

"طلٌّ وشرر"
رغيد النحّاس في الفوضى المنظّمة 

ليست الديمقراطيّة صندوق اقتراع وانتخابات وفرز أصوات، بل ذلك حيّز في عالم الديمقراطيّة الذي منه رعاية حاجات المواطنين في الطبابة والتعليم والعمل، وضمان حريّة الإعتقاد والفكر والرأي المسؤول، فالديمقراطيّة، تحوز اهتمام الدكتور رغيد النحّاس، السوري الأصل، في إصداره الجديد تحت عنوان "طلّ وشرر" وهو الكتاب الشامل في موضوعاته، فهي مرّة سياسية فكريّة، ومرّة أدبيّة وفنيّة، ومرّة بيئيّة، وهي، وإن ظهرت متباينة، فهي تجمعها "الفوضى" وذلك بتعبير الكاتب ذاته، وقد استعار من الروائيّة أحلام مستغانمي عنوان إحدى رواياتها "فوضى الحواس" تأكيداً لمنهجه. 
وليس للديمقراطيّة مبحث خاصّ بها في عموم الكتاب، إنّما تجيء مبثوثة  هنا وهناك، في هذه المقالة أو تلك، من مقالات سبق للكاتب أن نشرها في صحف ومجلاّت صادرة في لبنان وأستراليا، ومنها صحيفة النهار البيروتيّة وصحيفة التلّغراف ومجلّة كلمات الأستراليتين، وغالباً ما تسترعي نظرَ الكاتب رائياً نفاقَ الغرب، فالإنتصار للديمقراطيّة، يكون، في دول العالم الثالث، كلاميّاً، فيما عمليّاً، فالتعاون وثيق وعميق مع الدكتاتوريّات، وبتعبير الكاتب فإنّ الغرب يستهين بالشعوب، وحريّاتها، لصالح مصالحه الضيّقة والأنانيّة، ويلوّح بقميص عثمان الديمقراطيّة لأهداف خبيثة، وحتى هو يلجأ إلى الكذب المفضوح، مثلما حصل للعراق، عندما تمّ غزو البلد تحت أعذار واهية، وكاذبة، مثل حيازة العراق أسلحة دمار شامل، ليتبيّن إنّ هذا الشعار اختلاق، ولينقلب إلى "الديمقراطيّة" التي دمّرت العراق، وجعلت مكوّناته أيدي سبأ. 
ويرجع الكاتب في عمله الشمولي "طلّ وشرر" إلى القرن الفائت، وإلى الثلث الأخير منه، عندما يعيد نشر مقالات له من تلك الحقبة، ويؤكّد إنّ تجربة جمال عبد الناصر حكمتها النوايا الحسنة، إنّما الأعمال ليست بالنيّات، بل النيّات بالأعمال. ويتحدّث عن "أساطيل من العملاء والمارقين والمرتزقة، الذين ينخرون في جسم العالم العربي" وكيف هم يتحوّلون جميعاً إلى أبطال في عين الغرب فيما المقاومة، والمقاومة الفلسطينيّة، مثالاً لا حصراً، ضدّ إسرائيل، تغدو إرهاباً، ويجري التحريض عليها، ومحاصرتها، وتعقّب واغتيال قياداتها. 
أمّا نهضة أستراليا، وهي الوطن الثاني للكاتب، فتلقى تثميناً عالياً، لجهة ريادة أستراليا، والنجاح والرخاء لعموم مواطنيها، على قدم المساواة، ولكن في آن، ويا للأسف، هي مرتهنة للولايات المتّحدة الأميركيّة وبريطانيا، وقلّما تتمايز في سياساتها الخارجيّة عن هذين البلدين، وبلغ الأمر بأحد قياداتها أن قال في رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات إنّه مات إرهابيّاً.  
في الكتاب كلمة الأسترالي اليهودي الإنساني أنطوني لوينستاين، بمناسبة إصدار كتابه "مسألتي مع إسرائيل" وقوله إنّ الدولة الصهيونيّة ليست فوق النقد، واستذكار للإعلامي الراحل بطرس عنداري، صاحب "كي لا ننسى"، والأديب الراحل نويل عبد الأحد، صاحب واحدة من أهم ترجمات "النبي" لجبران خليل جبران، كما يستذكر أصدقاء أحياء، ومنهم الشاعر النيوزيلندي، الأسترالي، الأميركي الأصل، لويس سكوت، الذي سبق وشارك في حرب فيتنام، وعاش، وكشف عدوانيّة أميركا في تلك الحرب البشعة، التي ذهب ضحيتها الملايين من الفيتناميين (اعترفت أميركا قبل بضعة سنوات فقط إنّها قتلت 4 مليون فيتنامي وليس مليونين)، ثمّ يعرض للبيئة، وثاني أوكسيد الكربون، في موضوع آخر، والتخريب الهائل الذي يحدثه الإنسان في قلب وضمير العالم.  
الدكتور النحّاس، الموسوعي في اهتماماته ومعلوماته، ورئيس تحرير مجلّة "كلمات" سابقاً، ينشر في الكتاب قصائد قديمة له، وقصائد جديدة، وقصصاً تسجّل مفارقات في حياة المواطن السوري والعربي بالمقارنة مع حياة المواطن الغربي، ومن واقع تجارب، لا من واقع تهويم نظري. 
"طلٌّ وشجر" 328 صفحة، بانوراما حياة، فيها عبرة وحبّ، ونظرة نبيلة، إلى عالم يغرق في فظائع، فيما يستحق أن يكون أكثر حضاريّاً، وأكثر رأفة وإنسانيّة. 
كلمة الأستاذ جورج الهاشم

أفضل من يتكلم عن كتاب رغيد نحاس: طلٌ وشرر، هو رغيد نحّاس نفسُه. ففي المقدمة تجد ملخصاً صادقاً لمحتويات الكتاب كما تجد ملخصاً لنهج رغيد واسلوبِه وفلسفته في الكتابة....
في كتابات رغيد لا يمكنك ان تفصلَ، ولا يجب ان تفصل، بين ما هو سياسي أو اجتماعي أو انتقادي، وبين ما هو إنساني أو شخصي أو عاطفي، وبين ما هو محلي أو عالمي... لأنه كما يقول " يتناول الوضع الانساني في شموليته"، ولإايمانه "بتلازم هذه الجوانب ضمن الكل الواحد..."
فإذا نظرتَ إلى مقال "الانتخابات الأسترالية اليوم: ديمقراطية الخمسين في المئة" مثلاً يَرْكَبكَ الهمّ لطوله الذي يصل إلى تسع صفحات... ولكن عندما تبتدئ بالقراءة تنسى همَّكَ وتنتقل معه بسلاسة مذهلة من موقف إلى آخر وتُقَلّبُ الصفحات بشوق، متمتعاً بالعرض والتحليل، وتفكيك المشهد المركب إلى جزئياتٍ تتدفقُ أمامك بتسلسلٍ مقنعٍ ليعيدَ رسم الصورة الكبيرة التي تصبح، تحت قلمه، شديدةَ الوضوحِ والاقناع... يبتدىء بالحدث الآني المحلي: الانتخابات الفدرالية لسنة 2004. يثمنُ نظامَنا الديمقراطيَ الرائد، يدلُ على عراقته وانتسابه الى نظام وستمنستر. ليكشفَ أن نصفَ الامة لا تنتخب الرابح. ثم يستعرض مشاكلَ وحلولَ الديمقراطية ويعتبر أن مجلس الشيوخ يقدم ضمانة ، في مرّات كثيرة، ضد جموح الديمقراطية. ثم مشاكل المهاجرين الجدد مع الديمقراطية وهم الآتون من أنظمة ديكتاتورية تحسمُ في قراراتها التي تكون سلبيةً في الأغلب مع استثناءات إيجابية كقرار تأميم قناة السويس على أيام عبد الناصر. ثم ينتقل إلى قضية الحكم بشكل عام، ويقرر أن حكمَ الشعوبِ ليس بالامر السهل... وبعد جولة في المبادىء والأسس، واختلاف المصالح، يقرر أن الديمقراطية هي أفضل وسيلة للتعايش- ليطرح السؤال الكبير: ما هو هدف الديمقراطية؟
ثم يتطرق إلى مقولة الأكثرية الصامتة. وإذا كان يفهم أن تكونَ صامتةً في الأنظمة الدكتاتورية، فلماذا هي صامتة في بلد ديمقراطي؟ ولماذا لا تتكلم إلا في يوم الانتخابات؟
ثم يستعرضُ بَطَلَي حَلَبةِ الصراع المحلي: هاورد ولايثم. يحلل شخصيتهما وخلفية مواقفهما بقلم ناقد حساس مرهف... ثم يستفرد بهاورد فيعرض لعلاقاته بالغرب وأميركا إلى الحرب على العراق والإرهاب، والعلاقة مع الأمن القومي. وإلى تسبب هذه الحروب بخلق الملايين من اللاجئين، وتدفقِ قسمٍ منهم بواسطة القوارب إلى استراليا: القضية الساخنة والوازنة في الانتخابات وقتها وكل انتخابات. وبعد أن يؤكد أن هاورد متمسكٌ بالقيم الانسانية والاخلاقية على الصعيد الشخصي، يبين أن سياستَه بالنسبة إلى لاجئي القوارب لا إنسانية ولا أخلاقية بالمرّة... وبعد أن يتعرض إلى مآسي اللاجئين وأكاذيب السياسة حولهم، يعرج على جارته في حوار شخصي حول المفاضلة بين العمال والأحرار ليتفقا على ضرورة تنحية هاورد عن السلطة بعد أن أثبت لها بالملموس أن سياسة هاورد هي بالتحديد مخالفة لمبادىء هاورد نفسه الأخلاقية والإنسانية...
ولكن قرار الجاريْن لا يُلْزِمُ الناخبين الأستراليين الذين أعادوا هاورد إلى السلطة للمرة الرابعة على التوالي... ربما لأن رغيد، وأمثالَه المفكرين الإنسانيين الكثر في المجتمع الأسترالي، لا يملكون الوسائلَ والامكانيات للوصول إلى الأستراليين ليضعوا المشهد المحلي في إطاره الطبيعي من الصورة، وليضفوا عليه مسحة ‘نسانية شاملة...
للدكتور رغيد نحاس أحكامٌ صائبة في الكثير من المواقف والسياسيين. ففي مقالة بعنوان: فيه فايدة يا صفية! يقول عن حسني مبارك: حَوَّلَ البلادَ إلى شركة مقاولات تخدم من يدفع أكثر. وعن شباب مصر الثائر يقول: بذرَ الشبابُ في ميدان التحرير بذرةَ الديمقراطية المتمدنة... وعن عبد الناصر: لم تكن مطامعه سوى المطامع الوطنية... وأرجعَ سببَ هزيمة 67 إلى غياب الديمقراطية.. وعن عصر السادات يقول: بدأت البلاد تعود إلى عصور الظلام وطنياً واجتماعياً وفكرياً... أما رأيه في " الأخوان المسلمون" فقد كان رأي معظم المثقفين وقتها: "لهم الحق في حريّة التعبير والمشاركة الوطنية..."، ولكنه استدرك: "طالما أنهم لا يسعون لالغاء مثل هذه الحقوق عن غيرهم..." لقد فعلوها يا رغيد... فالفكر السلفي، الأخواني، الشمولي يستعمل سُلَّم الديمقراطية للوصول إلى السلطة ثم يرفسونه...
ويُسأل رغيد عن دور مصر في الثقافة العربية – ص 23 – فيقول: "مصر امي..." ويعرض لتجربته الشخصية. يكبر في حضنها في الفن والفكر والأدب والتحرر... إنها ليست امَّك وحدك. إنها أم أجيال عديدة... واليوم تستعيد دورها الرائد وخاصة التحرري. وآمل أن تأخذ بيدنا وتعطينا المثل في بناء الدولة المدنية الحديثة...  وعندها سيغير سعد زغلول رأيه ويقول لزوجته كما قلت في مطلع مقالتك الرائعة: فيه فايدة يا صفية...
لم أُدهش باسلوب رغيد البسيط، الأنيق، الغني بالصور.... فلقد تعودت عليه منذ مجلته الرائدة "كلمات". كلمته الراقية موجهة بالأساس ضد ثقافة النفاق. وضد ثقافة الكيل بمكيالين. يكتب بالصور كما يقول، ويُغْني القارىء بالمواقف الإنسانية التي لا تتبدل حتى مع الخصم، فهو يعترف بما له من ميّزات لا نملكها نحن... والأهم بنظري، أن كتابات رغيد تٌجْبِرُكَ على تشغيل الذهن وعلى التفكير، وتضعُكَ في مواجهة معه. تناقشه في كل أفكاره: توافقه هنا، تعارضه هناك، أو تلتزم الحياد في بعضها... والكتابة التي تجبرُ القارىء على التفكير هي برأيي أهمُ الكتابات...
كلمة أخيرة حول عنوان الكتاب. في مقابلة إذاعية فسر رغيد "طلٌ وشرر" بعنوان المقدمة: بين الندى والنار... إنها الثنائية التي تتحكم بكل ما قرأت من الكتاب: فندى حياتِنا الهانئة في المغتربات ونار الحياة في أوطاننا التي لا زالت تتألم... ثنائية المفاهيم والمواقف والأحكام والتصرف والعمل السياسي والاجتماعي والأخلاقي وحقوق الانسان بين المجتمعات المختلفة، وفي المجتمع نفسه، وبالتأكيد في داخلنا ايضاً... وأجمل تعبير عن عنوان الكتاب ما كتبه في الصفحة 10: "أداعبُ ورودَ الحديقةِ التي بللَها الندى النقي، وأسمعُ دويَ الصواعقِ في بلاد الشام..."
هناك آية من سورة البقرة تقول: "...فإن لم يُصبْها وابلٌ فطَلٌ..." كتابك يا رغيد إن لم يصبْ حياتَنا الأدبية في أستراليا بوابلٍ، فلقد أصابَها بِطَلٍ لا شك بذلك...
الطل والشرر أو الندى والنار مطلوبان دائماً. فإلى مزيد من شرر يضرم النار في الموروثات العفنة... وإلى مزيد من ندى على ورود الحديقة...
كلمة الإعلامية شادية الحاجّ

مساء الخير،
أشكر الدكتور رغيد النحّاس لإعطائي شرف مراجعة كتابه والمشاركة بهذا الحفل، وألفت انتباه الجمهور الكريم أن الكاتب يهدي كتابه لعمته دُرّية. صحيح أنه لم تجمعني الأيام بها، ولكن جمعتنا صُدف الحياة الجميلة التي هي أجملُ من كل المواعيد التي نستعدّ لها!

عزيزتي دريّة،
أكتب إليكِ رسالتي الأولى "من البلد الجاثم في أقصى الشرق جغرافياً وفي صميم الغرب فكريّاً وعمليّاً".
من القارة الكبيرة/ من الجزيرة الهائلة/ ذات المساحات الشاسعة التي قد تكون واحدة من بين خمس دول رائدة في مجال الديمقراطية في العالم.
ومن الدولة التي "تحوّل فيها الحنانُ الفردي الى تضامن اجتماعي راقٍ"، والتي رشّحت فيها رئيسة اتحاد كتّابها، السيدة صوفي ماسون، الكاتب الذي نحتفي اليوم بإطلاق كتابه الجديد، كواحد من أهمّ مائة مفكر في أستراليا في استفتاء أجرته صحيفتها المرموقة SMH.
اسمحي لي أن أناديك بصديقتي الفاضلة،
أيتها الغالية التي أمضيتُ برفقتها ساعاتٍ طويلة أستكشف ومضات مشاعر رقيقة كانت هي المصدر لإلهامها، والحافز لمملكتها الخلاّقة التي حوّلت هذه الصور المتراكمة في الذاكرة إلى عالم جديد يتلاقى فيه البُعد الترميزي بالبُعد الحقيقي للفن وللحياة معاً.
أيتها المربية الصالحة، العمّة دُرّية إليكِ أكتبُ اليوم وليس لأحدٍ سواكِ. أنتِ فراشةُ النور: "فكلُّ من طار مع آلهتي سيِّد الكونِ يصير." أراكِ بين هذه السطور. أراكِ على غلاف الكتاب التي نطلقه اليوم. طلُّ وشرر، ورائحة الطين تعبقُ الأجواء، ويمتزج فيها عطرُ الياسمين. أنتِ التي لم يعرف الملُل داركِ، ولم يستدركك الاجترارُ اليومي، لا بل أشبعتِ مخيّلة من أصبح له مؤلفات اليوم صوراً ورموزاً، بما تيسّر لكِ من قصص مدهشة من تراثكِ الإنساني.
اليوم، نشكرك جزيل الشكر، فها نحنُ نقطفُ ثمار ما زرعتِ ونغوص في معاناة مَنْ أحببتِ كل الحب، وها نحن بفضل هذا الحب وهذه العناية نستكشف العوامل المثيرة التي دفعته إلى الكتابة بصور أدبية نامية، متكاملة، أعادتنا إلى الجذور الأولى وجعلتنا نتّصل بعوامل أحلامنا ـ وها هي تُنقذِنا من أوهامنا، وتُثيرُ فينا حماسة النهضة والقيامة من الموت النفسي البطيء.
اسمحي لي أن احيّيكِ من هذه القارة البعيدة، فأنتِ صرتِ عمّتنا جميعاً، استحوذ حبّك على قلوبنا، وأخذ من واقعنا الرتيب رهائن... لفراشات الفجر الموصدة بعد في خوفنا الأسطوري.
تأكدّي أن قصصكِ المدهشة صارت أيقونات تفوحُ منها لغة التخاطب الازلي. ألم يقل رولان بارت "الاسطورة هي لغة الشعراء... أمثال إليوت ودانتي". فها هو الكاتب اليوم ـ يا عمة ـ يعترف ويشهد لكِ فيقول: "أحبّ أن أكتب بالصور ما استطعت لذلك سبيلاً. كيف إذن لا يُهدي كتابه اليكِ؟
اسمحي لي أن آخذكِ بدوري برحلة سريعة نتذوق خلالها الأنماط السابقة. فهو لو أعطاك حقّك من الوفاء فلم يبدأ من الصفر والعدم... فتعالي نستنبط تفاعلات هذا التراث، وهذه اللغة، وما فيهما من حرارة، والكثير من المعاني والآثار الحيّة الفاعلة.
أولاً أطمئنكِ أنّ الكاتب استهلَّ مجموعته بنصِّ قدّمه الى رفيقة عمره نجاة الدمشقيّة الأصيلة، كما ختم كتابه أيضاً بنص لها. فهو على الرغم من الوجوه النسائية المتعددة في الكتاب، والتي يكنّ لها الإعجاب والتقدير، أذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر، بنازير بوتو، حنان عشراوي، الدكتورة إيفا ساليس من مؤسسي جماعة أستراليون ضد العنصرية، روث البرازي التي أهدته كتاب النبي لجبران خليل جبران باللغة الإنكليزية ، الشاعرة الأسترالية اليزابيث ريدل، أحلام مستغانمي كاتبة "فوضى الحواس"، آنا فينبرغ، صوفي ماسون، جولي أندروز، وغبريالا المرأة الغائبة الحاضرة التي عرّفها على شعر نزار قباني الازلي (ص 191)، وغيرهن، فهو ما زال يكتب شعراً لنجاته الدمشقيّة: "نطيرُ.. نطيرُ... نقطة في المطلق نصير/ كنتِ حلماً يملأُ خيالي، زهرةُ ياسمين تفوحُ ببالي، وحينَ أوشكتِ أن تكوني حقيقتي، صارت حقيقتي حلماً يراودُ خيالي." وفي لحظة وومضة: "كل شيء أنتِ فيه أجمل!".
نِعْمَ التربية حقاً يا دُرّية! لكنّه لم يكتفِ بهذا الحدّ من الإعجاب والتقدير لمساهمات وقدرات المرأة، لا بل ذهب أبعد من ذلك إذ نراه في نصّه حول ديمقراطية الـ50% يُقنِع جارته بالعدول  عن الإدلاء بصوتها في الانتخابات لمصلحة الحزب الليبرالي وذلك بدافع (حسب قوله) الواجب الأخلاقي، وكمحاولة لتنحية أمثال السيد هاورد عن الحكم نظراً لإدعاءات أمثاله الكاذبة حول حادثة اتهام طالبي اللجوء القادمين على المراكب بإلقاء اولادهم في البحر.
لا أُخفي عليكِ أنني ما سأبوح به لكِ الآن لا بُدّ أن يُدخل الفرح الى قلبك. ها هو يعرّي (بموقفه هذا) سياسة الهيبوقراطية، أي الخبث والنفاق، أي سياسة من يختلقُ الأكاذيب من أجل كسب الانتخابات.
أحدِّثُكِ ولا حرج عن مشاعره بالرضا والامتنان متى أدلى بصوته بحريّة، وهو يشمُّ رائحة الورود والشواء وينعمُ بنعمة الديمقراطية، وكيف لا، فها هو يستشهد بك بفخر بكلمة رئيس الوزراء السابق راد "ليس العاملون سِلعاً اقتصاديّة بل هم بشرٌ يستحقون ويستوجبون الاحترام والرعاية والاهتمام". ويذهب به الافتخار إلى حدّ مناداته وإشارته إلى أن "ممارسة الديمقراطية بحاجة إلى نوع من التهذيب"، وهذا التهذيب لا يمكن أن يحصل "بمادة دستورية"، بل يطالب بإرساء قواعد ثقافيّة عامّة ترتقي بالسياسيين إلى نوع من الاستقامة السياسيّة. ولا يكتفي يا دريّة بهذا الحدّ، بل يذهب إلى أبعد حين يطالب بعولمة الديمقراطيّة!
سأكتفي بهذا القدر من شرحه الطويل والمفصَّل في السياسة وتداعياته واللعبة الديمقراطيّة ودعوته إلى المسلمين والعرب كافة إلى الخروج من صدر الإسلام ليدخلوا في إسلام القرن الواحد والعشرين. يكفيني أن أُحيطكِ علما بنقده للتعبير السياسي الجديد الذي تتداوله الأوساط السياسية في أستراليا Political Correctness أي "الاستقامة السياسية". دعينا نترك للقارىء لذّة استكشاف نقده الفكري وسبرَ جذور هذه الظواهر في مجتمعاتنا العربية حيث تختلف التسمية فقط بينما يبقى المضمون على حاله. فالاستقامة السياسية في بلادنا، حسب تعبيره، هي ما نعرِّف عنه "باللياقة" حفاظاً على الظواهر التي تقتضيها العادات الاجتماعية المتوارثة والتقاليد.
نعم يا دُرّية، إنني أصغي اليكِ وكلُّني آذانٌ ترصد خلجاتِ صدرِك. نعم، لا تقلقي فله مواقف أخرى يتجلّى فيها الوفاء للأصدقاء الذين رحلوا إلى دنيا الحق، والذين أحبّهم كما أحبَّكِ لأنكِ زرعتِ فيه بذور محبّة هؤلاء الذين يتحلّون بالنزاهة الفكرية. أذكر منهم الأستاذ بطرس عنداري، عبد المعين الملوحي، الدكتور يوسف سمارة، نُويل عبد الأحد. أستشفُّ حِرصكِ على القيم الأخلاقية، لكن دعيني أكمل لأنه ستُدهشكِ طروحاته عن التلوث البيئي وضرورة ترسيخ مفهوم الأخلاق البيئية. سيُدهشكِ نقده مثلاً للعادات السيئة في المجتمع الاسترالي كعادة التزمير التي يعتبرها من أشكال التلوث بالضجيج.
دعيني الآن بعد أن أطمئنكِ أنه لم ينسَ عمّاته، وجده، ولا دور مصر في تثقيفه، فهو يصرّح بصوت عال: "مصر أمي". ولم يغب عن باله "دعاء الكروان" لطه حسين، وروايات نجيب محفوظ، والعرِّيف في الصف أيام المدرسة، وعشقه لبيروت التي كما يقول كانت جاذبيتها في سهولة التعاطي معها وقدرتها على مبادلة الحب الصريح!
آن الأوان يا دُرّية أن اقاسِمَكِ فرحي وغبطتي وأشاطرك ما يقوله الدكتور ربيعة أبي فاضل عن شاعرنا سعيد عقل في مجرى حديثه معه حول قيمة الأدب: "في إمكانك أن تستغني عن كل النشاطات العقلية، إلاّ عن الأدب. يمكنك أن تصنع امّة بواسطة الأدب، الأدب يبني أمة. في الأدب كل شيء." بينما يقول جورج مصروعه (هنيبعل): "الكتابة تمنحني لذة جسديّة إلى جانب الارتياح النفسي والعقلي. وأختار من الماضي ما أعتبره فعّالاً في العقل والقلب والوجدان والخيال."
يعتبر الدكتور رغيد، إضافة لما يعتبر، الكتابة حاجة نفسية بل يعتبرها رسالة اتخذت حيناً بُعداً أدبياً محضاً، واتخذ التاريخ حيناً آخر كمرجع علمي (جاف) مؤلم وغلّفه بالأدب الظريف.
ونلحظ أنْ لا توقَ مثيراً للاهتمام في قصصه وفي فكره إلاّ التوق إلى القيم الرفيعة، التي يطمح من خلالها الكاتب دعوة القارىء إلى التغيير نحو الأفضل، وهذا ما يدلّ على شموليّة وسِعَة أفقِ رؤياه في استيعاب الثقافات وألوان الحضارة.
صحيح أن الاغتراب ظاهرة إنسانية يتعاظم أثرها كلما ازدادت حدة ضغط الظروف الاجتماعية السياسية والاقتصادية، لكن إيريك فروم يُجسِّد مفهوم الاغتراب بمظاهر العزلة الناتجة عن إحساس الفرد بأن الآخرين لا يواكبونه فكرياً، وعمّا يسود المجتمع "المجتمع العاقل" (1955) من ثقافات مشوّهة، وتضليل سياسي، وتضارب في الآراء والأفكار الموضوعيّة الناتجة عن وعي الفرد بوجود الآخرين كشيء مستقل عن نفسه أو عن تمييزه في اختصاصه او تفرّده بمجال معين.
الإنسان في عصرنا الحديث أصبح منفصلاً انفصالاً حاداً عن المجتمع والدولة وحتى الله. فغدا بذلك الاغتراب موضوعاً بارزاً في الأدب شأنه شأن أي نشاط إنساني... فنحن منذ هوميروس اطلعنا على الإلياذة والأوذيسة حيث يصف لنا اغتراب الإنسان وضعفه أمام الطبيعة، كما وصف شكسبير في "هملت" و"الملك لير" المغتربان عن كل ما حولهما، وكذلك في أعمال بلزاك، وفيكتور هيجو وتشارلز ديكينز. كلّما ازدادت التحولات الحضاريّة تعقيداً وتضارباً، كلما انعكس ذلك على الإنسان (عامة) فكيف بالحري على الكاتب الذي أصبح اكثر ميلاً الى الاضطراب والتمزّق الداخلي. لذلك ومن هنا أصبح موضوع الاغتراب يُعدّ واحداً من الموضوعات البارزة في كثير من الأعمال الأدبية العالميّة والعربية (الطيب صالح، غسان كنفاني، جبران، ميخائيل نعيمه، الريحاني، حنان الشيخ، نازك الملائكة، فاطمة المريسي، وغيرهم).
لكن ما يهمنا هنا هو عامل الاغتراب عند النحّاس، وذلك من أجل تحقيق انتماء آخر يوفر أملاً أكبر بالنصر على الذات أولاً، كما يوفر عملاً أكثر جدوى قد يصبّ في مصلحة المجتمع ككل. فنرى النحّاس يلجأ اجتماعياً إلى الخروج عن نواميس السائد الاجتماعي في الوطن، وفي أستراليا (فلمينغتون ماركت، عادة التزمير، الفضائيات، مفارقات بوليسية، قيد نفوس، الانتظار في المطارات، شرطة السير والمرور). فمن خلال مناهضته لتلك النواميس أو مغادرتها ونقدها ومحاولة إسقاطها، يخضع هنا لرؤيتين: السلبية المدمرة، والثورية الإيجابية التي هدفها تغيير القانون الاجتماعي.
يقول رجب محمود في هذا السياق (في الاغتراب سيرة ومصطلح): "الغريب يتجنَّبُ المجتمع ومعتقداته باعتبار أنهما من العوامل التي تساهم في ضياع ذاته الاصيلة."
قد يكون كل ما قيل سابقاً في أدب الاغتراب، وما أضافه ألبير كامو في "الغريب" الذي رسَّخ هذا الحوار مع الذات المنفصلة أكثر من سواه من الأدباء المعاصرين، تكريس لهذا التشتت. لكن ظروف الواقع السياسي والتشتت الأسري، لم يسهما في فقدان القيم الاجتماعيّة والأسريّة لدى النحّاس، لا بل زادت من صقل معدنِه الطيب الأصيل، فها هو يذكر صوراً من الماضي بكل فخر واعتزاز ويهدي أجمل وأرقى ما لديه لعمّة ربَّت وسهرت، ولزوجة أحبّ.
هو الغريب حقاً عن التفاهات. هو المثقف الذي إذا ما أصيبَ بعقم نفسي ناتج عن الهزائم المتلاحقة التي مرَّت بها شعوبنا العربية منذ 1967، والذي يُشير إليه على أنّه "الحلم المزيف" (ص 21) والشلل الفكري، لكنه مع ذلك لا يستسلم لليأس، ولا يصوِّب إلى رأسه رصاصة (خليل حاوي)، بل نراه يتصالح مع جبران ويقرأ بعد مرور أربعين عاماً جبران بالإنكليزية ويدعو الى تأسيس مؤسسة الاستخبارات الثقافية (ص 122)، وتهذيب الديمقراطية (ص 57). يشعر بالامتنان والرضا لكونه ينعم بديمقراطية هذه الدولة (ص 49)، ويدعو إلى ترسيخ المفاهيم البيئية (ص 148)، وينهل من الماضي أجمل ما لديه من قيم وخصائل وفضائل (ص184). "كي نحرر أنفسنا من أنفسِنا... وإن كنّا لا بدّ أن ننعتق نحو التراث والماضي فجدير بنا أن يكون انعتاقنا نحو السمو الانساني!"
وفي الختام لست أرى أكثر سمواً من ذلك سوى حفاظه واحتفاظه بدفء الماضي، فهو يهدي هذا الكتاب اليك يا دريّة وإلى عماته وجدّه ومصر وبيروت "القلب الذي كان ينبض بين ضلوعه"، ودمشق الأم والزوجة، وما زال يأمل أن فيها "فائدة يا صفية".
أخيراً وليس آخراً: الزوجة الدمشقية نجاة، فيقول: "وما همني ان كحَّلتِ الجفون/ فليكن كل شيء كيف يكون/ كل شيء أنتِ فيه/ أنتِ أجمل!"
نامي قريرة العينين يا دريّة! فالغربة لم تدلل رغيداً ابن التراث العريق، والسمعة الحسنة، وابن الثقافة والبيت الكريم، لا بل انصهرت افكاره وخواطره وعواطفه وتجمعت لتنطلق معاً كالفراشات في حالة من الغبطة والنشوة التي لا تشرحها لغة، لا بل تعجز عن تعبيرها لأنها قد تكون هذا الفرح الذي يزيِّن جبين مَنْ وُلِدَ من جديد ليعود إليك منتصراً متصالحاً مع نفسه، نقيّاً، متجاوزاً لذاتِه، مقتدراً لإيقاظ الهمم بطموح وحزم. 
"كل من طار مع آلهتي/ سيّدُ الكونِ يصير/ دونَ أن يعلم" (ص 306)".
وأعتمد قول "نويل عبد الاحد" مخاطباً النحّاس: ونحن بفضلِ حبكِ وعنايتكِ ودرايتكِ "سنساهم في إبراز الأسباب التي من شأنها أن تحررنا من تلك الذهنية المحنّطة، أي من هذا اللحاف، إرثنا الجماعي الذي نقدّسه على علاته" (ص 174) كذلك فقط نصير معاً أسياد الكون.. دون أن نعلم!
أودّعكِ يا درية واطمئني فأنتِ فعلاً سيدة الكون صرتِ...
كلمة الدكتور رغيد النحّاس، مؤلف الكتاب

المبدعون قلماً وفنّاً وعلماّ، السلام عليكم.
والسلام عليكم أيّها السيّدات والسادة، لا حفل دونكم، فشكراً لحضوركم. 
الصديقان د. إميل شدياق و الأستاذ جورج هاشَم، أنتما أول من اتصلت بهما فلبيتما النداء بتعاونكما في تبنيكما إطلاق هذه الكتاب وتسهيل اتصالاتي مع الجالية العربية.
السيّد إيلي ناصيف، رئيس رابطة إحياء التراث العربيّ في أستراليا، والسادة أعضاء الرابطة، شكراً لتبنيكم هذا المشروع. ونشكر إدارة جمعيّة كفرحلدا لتكرّمها بتقديم هذه القاعة. ونقدر عالياً تعاون السيد إلياس طنوس رئيس الجمعية، والسيد شايان مدير القاعة في تسهيل هذه العملية.
أصدقائي: أكرم برجس المغوّش، وشوقي مسلماني، وسميح كرامي، شكراً لجهودكم واتصالاتكم. والشكر لكثيرين ممن نقلوا خبر الحفل إلى آخرين. وأؤكد امتناني للسيّد لؤي مصطفى، منسق مجلس الجالية اللبنانيّة، على اتصالاته المكثفة في توصيل الدعوة إلى هذا اللقاء بوسائل مختلفة. 
الشكر الجزيل للإعلاميين الذين أجروا معي المقابلات: شكراً السيدة شادية الحاج، وشكراً الأستاذ أنطوان القزّيّ، وشكراً الآنسة مرام اسماعيل من راديو SBS، وشكراً للأستاذ شربل بعيني لتسجيله مقابلة معي لتلفزيونه "الغربة"، بحضور الأستاذ إيلي ناصيف في منزلي، كما نشَرَت بعض الصحف العربيّة خبر هذا اللقاء، فلها تقديرُنا. 
الصديق الكبير الأستاذ الدكتور أحمد شبول كان أول من قرأ هذا الكتاب، وأفتخر أنّني زيّنتُه بتعليقه. واعتذر عن التواجد هذا المساء نظراً لظروف طارئة.
أما شقيقتي رغداء، التي تقطن في بيروت، وكنت آمل أن تكون معنا، فلها الفضل الكبير في مساعدتي على وضع التعابير والمصطلحات ضمن الإطار اللغوي القويم.
عزّة وتوم وأخي أديب، شكراً لمساعدتكم القيّمة هذا المساء. 
******
أريد أن أبدأ بنادرة قد تلقي بعض الضوء على ما يحرّض على الكتابة أحياناً، وهي تتعلق بنص في الصفحة 278 من الكتاب بعنوان "أواه يا امرأة"، وهي واقعة حقيقيّة.
استوقفني رجل لبنانيّ في الطريق وقال إنّه ميّزني من صورتي التي تظهر إلى جانب كتاباتي في صحيفة التلغراف في سيدني، وبدأ بمديح كتاباتي خصوصاً ما يتعلّق منها بما سمّاه "الغزل"، وأكّد لي أنّني أكتب جيّداً، وأنّ غزلي بالنساء في لبنان السبعينيّات قويّ جداً.
شكرت الرجل واستأذنته مغادراً في طريقي دون أنْ أخوض معه في نقاش حول ماهيّة ما أكتب، لكنّني رأيت نفسي في حالة استحضار واستعراض لسلسلة ما كتبت، وأسباب وأصول ما دفعني لتلك الكتابة، فوجدت نفسي أقول له: 

ياليتك تعلم يا صديقي أنّ تلك النساء اللاّتي تتحدّث عنهنّ هنّ امرأة واحدة، مرّة تكون أمّاً ومرّة تكون زوجة، عشيقة أوصديقة، شقيقة أم ابنة عم، عمّة، خالة، جدّة، حماة. مرّة تصْبُغ شعرها، ترفعُه، تنشره. مرّة تكحل الجفون. مكتسية، أم عارية. تقود سيّارة، أم تحلب بقرة. تُحضّر لجلسة قضائيّة، أم تخبز منقوشة بالصعتر.
هؤلاء النساء مساحيقٌ على وجه امرأة واحدة، اغتصبَها أبناؤها بمساعدة أشقائهم وأعدائهم، ولمّا تكوّرت بطنُها بجنين مكرهم وترفهم، تركوها حُبلى بهموم الغيب القادم. تركوها قلقة ليس من الفضيحة بقدر ما سيحدث عند الولادة، وهي تعلم أنّ وحشاً مفترساً ينتظر على باب دارها الجَنوبي، له من حاسّة الشمّ ما تستشعره في فرْجها الذي صار يخشى لحظة الفَرَجْ. صارت تخشى الأمومة، وهي التي فتحت صدرها حبّاً بكل المارقين، وأعطتهم من مفرزات تلذّذها بحبهم الخادع. مات الجنين في أحشائها.
نعم! أنا واحد من عاشقيها، وقد أكون الأب الحقيقي لجنينها الذي ستأكله الضباع. لكنّني لا يمكن أنْ أثبت ذلك. وربّما لن يُسمح لي أنْ أثبت ذلك. وأنا واحد من أبنائها، وأشقائها، وأبناء عمومتها، وخالاتها، لكنّ مشكلتي أنّ لون جِلدي في نظر بعضهم مغايرٌ للون جلودهم.
كلّ الذي أعرفه أنّني أحببت هذه المرأة كثيراً، وضاجعتها كثيراً، وكنت أسمع أنين نشوتها وهو يخرج من مساماتي، وأشمّ عطر لذّتها حين ينسكب على جسدي. ولازلت أذكر ولادتي! رحلتي في الدهليز السحريّ الذي نقلني من داخل رحمها إلى الوهاد والسفوح في جسدها المستحم برذاذ البحر وعَبَق الصنوبر والأرز. نعم! أبصرت النور من فرجها، ثمّ رأيتُه بريقاً في عينيها. لذلك تراني أكتب عن ذكرياتي معها بهذه القوة. أخشى أيّها المارق في طريقي أنْ أبوح لك أنّها أمّـُك، أختـًك، زوجتك... أوّاه يا امرأة... يا لبنان.

طلٌّ وشرر

أشهد أنّ الكلمة بابُ الإرث الحضاريّ، وأنّ الكتابة مِفتاحُ ديمومته. أنا أكتب لأنّني أستمتع بالكتابة كعمل خلاّق، وأنشر لأنّني أحبّ أن أتشارك مع الآخرين بما يجول في خاطري، ولأنّني أريد أنْ أسهم في استمرار التراث اللغويّ العربيّ وتحسينه، مهما كان عملي متواضعاً.
حين ينتقل العمل الإبداعيّ، في هذه الحال كتاب أدبيّ،  من فكرة إلى نصّ، ويتم تدوينُه بغرض بثـِّه، يصبح من الضرورة بنظري أنْ يُعتنى به من حيث الشكل والمضمون كعمل فنيّ متكامل. المضمون يتعلق بالأفكار، والشكل يتعلق بالأسلوب والتعابير واللغة والطباعة. هذا الكتاب سيصبح في يد المتلقّي، ولا بدّ من احترام ذلك المتلقي بمساعدته على تذوّق ما أراد أنْ يتذوّق. هذا، على الرغم من إيماني العميق بأنّ التلقّي فنّ قائم بذاته، وعلى المتلقي أيضاً دور مهمّ في محاولة أنْ يقرأ ما بين السطور، وأن لا يتمسّك بحرفيّة الكلام، ولا ينتزع الأفكار خارج الإطار الذي جاءت ضمنه. هذا لا يعني أنْ لا يُعمل خياله، بل على العكس، أن يفكّرَ مثلاً في الأسئلة التي يمكن للنصّ أن يطرَحَها، وأن لا يبحثَ فقط عن أجوبة المسائل المطروحة. الأجوبة تختص بقضيّة وزمن محددين، وقد لا تصلح لكلّ زمان ومكان. الأسئلة يجب أنْ تُطرح دائماً لإعمال العقل وتحريضه، والبحثِ عن الأجوبة التي تناسب العصر. قال فولتير: "أحكُموا على الرجل بأسئلته، لا بأجوبته".
المسألةُ مسألةُ توازنٍ نصل فيها إلى الفهم الواعي الذي يخدم أغراض التمتّع والاستفادة والنقد. هذا ليس غريباً أنْ يأتي مني، وأنا الذي يؤمن بتكامل الجوانب المختلفة للشأن الإنسانيّ، وما التفريق إلاّ لغايات عملانيّة. أما المحصّلة، فلا بدّ أن الإنسانَ كلٌّ متكاملٌ. وكذلك المجتمعُ الناجح، وهذا ما نأمله للإنسانيّة التي باتت اليوم في كوكب تقلصت مساحتُه وقصر زمنُه في عصر العولمة والتقانة الذي يضمن التواصل السريع زمناً وكمّاً.
******
طلّ وشرر كتاب يجمع بعضَ كتاباتي التي سبق نشرُ معظَمِها منذ السبعينيات من القرن الماضي وحتى بضعَ سنين خلت. يضم الكتابُ النصَّ والقصة والمقالة، وأعتبره ومضاتٍ من سيرتي الذِهنيّة، ولا شكّ أنّه يعكس بعضاً من سيرتي الذاتيّة، لأنّني حتى في كتاباتي الخياليّة أستعير تجارب، وأماكن، وأشخاص عايشتُهم وتفاعلت معهم.
أنطلق فكريّاً من مبدأ أنّه لا يمكن لنا بما لدينا من وسائل من التوصّلِ إلى ما نسميه "حقيقة مطلقة"، وأن الحقائق نسبيّة تختص بوضع ووقت معينين، وأنّ العلم هو أفضل وسيلة بين أيدينا لاكتناه ماهيّة وجودنا، لكنّه وسيلةٌ قابلة للتصحيح الذاتي، وليست صالحةً لكلّ زمان ومكان، وليس لديها حاليّاً الإجابة عن كلّ أسئلة الوجود.
وأنطلق عمليّاً من أنّ هناك أكثرَ من وسيلة لتحقيق الغاية نفسها في معظم الحالات. تخضع هذه الوسائل لأساليبِ الأفراد الشخصيّة، ولذوقهم، ومستوى إبداعهم. ولولا ذلك لا يحدث التطور، ولا تتحسن الجودة. وكم من مرّة نجد أنّ أهداف البشر تتفق من حيث المبدأ، لكنهم يقتتلون على طريقة التنفيذ. مثلاً، كثير من الفئات يتحارب اليوم من أجل عقيدة واحدة.
لهذا أؤمن بالتناغم، لا بالتماثل. أي ليس من الضرورة أن يتماثل الأفراد لنحقق حياة أفضل، بل لا بدّ من الاحتفاظ بالخصائص المميّزة لكل فرد أو ثقافة، دون أن نجعل منها وسيلة لإنكار الآخرين وإلغاء دورهم.
وهذا ما أعنيه بالتكامل أو الشموليّة، وليس القصد أبداً أن تكون الحياةُ جامدةً لا لون فيها. وواقع الحياة أنّ فيها ألواناً لا تعدّ ولا تحصى، كما أنّ فيها الحلوَ والمر، الندى والنار، أي الطلَّ والشرر، ومن هنا جاء عنوان الكتاب.
هذا العنوان اخترتُه سابقاً لإحدى زوايا مجلّة "كلمات" التي كنت أُصْدِرها.
أشرح في مقدمة الكتاب المواضيعَ التي تناولتُها والأنماطَ الكتابيّةَ التي اعتمدتها، وأركّز على أنّ كلَّ موضوع حمّال لكلّ جوانب الندى والنار سواءٌ أكان سياسيّاً أم عاطفيّاً. بعبارة أخرى، أسأل القارئ أنْ يتمعّن في البعد الإنسانيّ فيما يقرأ.
أردت أيضاً من إخراج الكتاب على الصورة التي جاء فيها أن أعبّر عن ذوقي الخاصّ في مثل هذه الحالات، وأضربَ مثلاً محسوساً عمّا يمكن أنْ أساعد فيه الآخرين في مجال عملي الإضافيّ في الترجمة والتقييم والنشر.
أحبّ أن أشير أنّه من واقع تجربتي الشخصيّة في تصميم وإعداد وتحرير ونشر مايزيد عن ثلاثين كتاباً، أنّ من يدفع آلاف الدولارات لطباعة الكتاب، يجب أن لا يبخل في دفع ما يلزم لتحضير نص على مستوى عال من الجودة، مثل ابتغاء المراجعة والتدقيق. وكذلك في سبيل تحضير الكتاب بالشكل المراد قبل إرساله إلى المطبعة، لأنّ معظم المطابع هو مجرد مطابع لا أكثر. ونعلم أنّ أيّ فرد يمكن أن يُصدر كتاباً، فهل نريد النشر لمجرّد النشر؟
ولعل من أهمّ ما نفتقر إليه في هذا الصدد هو ثقافة النقد البنّاء، ولهذا ركيزتان هما تقبّل النقد،  وكذلك وجود من هو كفو لهذا الغرض. أدّى عدمُ قبول النقد، خصوصاً لدى من هم ذوي شأن ونفوذ، إلى إحجام الآخرين عن نقدهم. أضف إلى ذلك ثقافة المحاباة المتفشيّة في ذهن كثير من البشر، والتي ينتج عنها "المسايرة" وتمرير الأمور. النيّة الحسنة وحدها لا تكفي للإنتاج الجيد، ناهيك بالإنتاج الخلاّق. لابدّ أن تكون النيّات بالأعمال.
أعتقد أنّ الجالية العربيّة هنا، هي منجم فيه الكثيرُ من الدرر، لكنها تفتقر أسباب التعدين، أو لا تكثرثُ بهذا النوع من المجوهرات. أرى بين الحين والآخر ماسةً تطفو وتحاول اللمعان، لكنّها لاتجد المؤسّسة المناسبة لصقل مواهبها، ناهيك بوجود من يحاول طمس معالمها. وأرى في كثير من الأحيان من يعتقد أنّ عمله وصل إلى مستوىً يليق بالنشر، وقد لا يجد إلاّ المسايرة والتشجيع الأجوف، في حين أنّه بحاجة للنصيحة الحقّة. (قال لي أحدهم مرّة، دفاعاً عن أيّ شيء ينشر، إنه "لا مرجعيّة في الشعر". أنا لا أوافق على ذلك، وأشدد ثانية أنّ كلّ ما وُضع تحت تصرّف المتلقي يصبح عرضة للمرجعية حكماً، مع العلم أن المرجعية الأخيرة هي الجمهور العام.)
أقول هذا لأشير أنّنا كلنا بحاجة لمؤسسة من مثل رابطة إحياء التراث العربيّ في أستراليا، وأتوجّه إلى المسؤولين عنها وإلى المهتمين بها أن يستحضروا كلّ ما لديهم من أسباب دعمها وتطويرها، وأتطلّع إلى يوم تكون فيه هذه المؤسّسة، أو مثيلها، من يقوم بدعم الكلمة بالمساعدة على النشر الراقي، لأنّ أفضل جائزة تُمنح لأي مبدع هو أن يرى إنتاجه في متناول الجميع. 
وختاماً أشكر عدداً من توائم الروح التي رافقت مسيرة حياتي، فكانت على الرغم من نَدرتها خيرَ صديق للفكر والنفس. أما الصداقة الشاملة الكاملة التي ما بخلت عليّ بغال أو رخيص خلال مسيرتي العلمية والعملية والفكرية خلال سبع وثلاثين سنة إلى اليوم، فأوثّقها من جديد مع نجاةَ، بنتِ بلدي الأول دمشق، وشريكةِ بلدي الأخير سيدني.

CONVERSATION

0 comments: