"ان الثقافة شأن حضاري يرفد الانسانية نوراً ومعرفة، ولذلك يجب ان نُبقي الثقافة والادب فوق الأحقاد والانانيات والمشاحنات، ويسقط الأدب عندما يتحول الى انفعالات وردات فعل.." - بطرس عنداري
*****
ليس من السهل ابداً الكتابة عن انسان جمع في شخصه العديد من القيم والصفات النبيلة التي تركت أثرها الواضح على الكثيرين طوال نصف قرن من مسيرة ثقافية رائدة وغنية جسّدت بعطاءاتها نقلة نوعية في جاليتنا اللبنانية، وأطلقت برقيها الانساني نهضة فكرية وأعلامية وأدبية كنا بأمس الحاجة اليها في هذه الديار. وكيف لنا ان نفي ولو النذر اليسير من انجازات وكتابات الأستاذ بطرس عنداري حقها، سواء على مستوى الجالية والوطن او على المستوى الشخصي في مقال كهذا، فيما يحتاج ابو زياد بمسيرته الحضارية الى كتب ودراسات وندوات عديدة. يرحل ابو زياد فيبكيه القلم وتخسره المنابر وتفتقده المواقف الجريئة والكلمة الملتزمة بقضايا الانسان اينما كان. يرحل ابو زياد ليغيب عنا الصديق الهادىء
والخلوق، والأخ الذي طالما غمرنا بمحبته ورعايته الثقافية وارشاداته وحكمته.
وهنا أستعين ببعض مما كتبته عن استاذي حول كتابه "كي لا ننسى" عام 2003 كونني تلقيت منه يومها الرد الذي لا يأتي إلا من أمثاله من الكبار بفكرهم المميز وأصالتهم وسمو تواضعهم. ومما جاء في مقالتي حينها "لم يستأثر اسم كاتب باهتمام القارئ العربي في استراليا مثلما فعل اسم بطرس عنداري. ولم "يوفق" كاتب في اثارة الجدل وردود الفعل حول افكاره الاجتماعية والسياسية والثقافية مثلما حصل مع ابي زياد. ولذلك يتعذر تناول كتاب "كي لا ننسى" من دون التطرق الى شخصية الكاتب واخلاقياته واسلوبه في التعاطي مع الآخرين ومدى تأثيره عليهم، سواء في انطباع قد يتركه، أم في أحقية آراء قد يطرحها كتابياً أم شفهياً ومقارنتها مع تصرفاته كواحد من اهم النقاد، ليس استرالياً وحسب وانما لبنانياً وعربياً.
عندما ألتقيته للمرة الأولى في مكتبه في دالويتش هيل منذ ما يناهز الـ25 عاماً، تعرفت عن كثب على كاتب مخضرم تلونت شخصيته باخضرار واقعيته وطيبته "القروية" وصراحته المتوازنة وبساطته العميقة بفلسفتها الحياتية. ومنذ ذلك الحين، زادتني الظروف معرفة بابي زياد وفكره وشخصيته وصفاته التي ضاعفت من احترامي له ومحبتي. فبطرس عنداري واثق من نفسه، حضوره محبب، راسخ في مبادئه، واضح في نظرته، هادئ، خفيف الظل، واسع الاطلاع والثقافة، جريء من دون حوربة، يكره الجدل العقيم، قليل الكلام عندما لا يروق له اسلوب النقاش وسخريته المهذبة لا توفر الكثيرين.
قد تكون "مشكلة" بطرس عنداري انه لم يعشق مواقع قيادية مصطنعة ليست سوى وجاهات فارغة من اي مضمون مفيد، لذلك حافظ على ثورية تفكيره وارادته الساعية الى تغيير مفاهيم موبوءة ادت الى تفتيت المجتمع وشل قدراته. ومشكلته الاخرى تكمن في كونه ناقد حقيقي لا يحب المجاملة ولا يجود في توزيع شهادات المديح والاطراء على الاصحاب والزملاء والرفاق في سبيل تببيض الوجه.
ثلاثة توجهات ميّزت كتابه "كي لا ننسى". اولها انقلابه الواضح والمنظم على ذهنية المبالغة التي تتحكم بأقوال الشرقيين وتصرفاتهم وتقاليدهم. فيكتب مثلاً في "انه وطني.. انه لبناني": "... هذه امور شبه عادية في هذا العصر المميز بالخداع والمظاهر الفارغة واطلاق الاقوال المعسولة التي تعني فعلياً ما لا نؤمن به ونعمل من اجله. وبتنا ندل بالاصابع على بعض الاوفياء المهذبين المتمسكين ببقية من اخلاق ونتهمهم غالب الاحيان بالسذج والبسطاء"...
وثاني تلك التوجهات مناهضته اساليب المجاملة. فيقول في "الخيانة تحولت تراثاً": "لو خيرت بين متمسك بعقيدة اكرهها وبين تقي مجامل يتحين الفرص ويحاول ارضاء كل فرد يلتقيه لاخترت العلاقة مع الاول بسرعة".
وثالثها امتعاضه من ممارسات "قيادات" صورية وهمية نصّبت نفسها وصية على جالية مشرذمة باتت عرضة لكافة انواع الاتهامات فيصرخ في "جالية تمثيل لبنان": ".. وكل هيئة وكل شخص يدعي بانه المرجع الوحيد للجالية والممثل الشرعي المعترف به للارزة الخالدة، ومن لا يوافق على ذلك ينزل الى ساحة "التباطح" وكل جهة تعتبر الآخرين مراوغين، عملاء، يكرهون لبنان، انانيين لا يمثلون سوى انفسهم".
وبطرس عنداري لم يكتب الا من اجل رسالة تطوير المجتمع وتحسين احواله، وهو الذي لم يتردد طوال حياته في مد يد العون لكل انسان موهوب وتشجيعه على ابراز مواهبه وارشاده الى الدرب السليم ومنحه الثقة والاحترام والصداقة الصادقة.
اليوم، ترحل يا ابو زياد لكننا لن ننساك وكيف لنا ذلك وما زالت جلساتنا معك راسخة في عمق أعماق وجداننا. أذكرك يا أستاذي وانت اول من دعمني ونشر لي مقالة في صحيفته، وانت من كان لي شرف العمل معه في الجبهة العالمية لتحرير لبنان وفي إعداد "الملف اللبناني" وفي العديد من المجالات الثقافية. وكيف أنسى فضلك في الأشراف على كتابي "يوسف بك كرم الأمير الثائر" وتقديم كتابي "تجربتي مع التيار". وكيف لي ان أنسى ارشاداتك التي ساهمت في تطوير عملي في الشأن العام.
اليوم، تترجل يا استاذ بطرس، يا فارس الكلمة الراقية، لكنك ستظل دوماً في القلب وفي البال، وستظل أقلام الوفاء والانسانية تكتب اسمك ومسيرتك بأحرف النور والمعرفة التي كرّست حياتك من أجلها.
*****
ليس من السهل ابداً الكتابة عن انسان جمع في شخصه العديد من القيم والصفات النبيلة التي تركت أثرها الواضح على الكثيرين طوال نصف قرن من مسيرة ثقافية رائدة وغنية جسّدت بعطاءاتها نقلة نوعية في جاليتنا اللبنانية، وأطلقت برقيها الانساني نهضة فكرية وأعلامية وأدبية كنا بأمس الحاجة اليها في هذه الديار. وكيف لنا ان نفي ولو النذر اليسير من انجازات وكتابات الأستاذ بطرس عنداري حقها، سواء على مستوى الجالية والوطن او على المستوى الشخصي في مقال كهذا، فيما يحتاج ابو زياد بمسيرته الحضارية الى كتب ودراسات وندوات عديدة. يرحل ابو زياد فيبكيه القلم وتخسره المنابر وتفتقده المواقف الجريئة والكلمة الملتزمة بقضايا الانسان اينما كان. يرحل ابو زياد ليغيب عنا الصديق الهادىء
والخلوق، والأخ الذي طالما غمرنا بمحبته ورعايته الثقافية وارشاداته وحكمته.
وهنا أستعين ببعض مما كتبته عن استاذي حول كتابه "كي لا ننسى" عام 2003 كونني تلقيت منه يومها الرد الذي لا يأتي إلا من أمثاله من الكبار بفكرهم المميز وأصالتهم وسمو تواضعهم. ومما جاء في مقالتي حينها "لم يستأثر اسم كاتب باهتمام القارئ العربي في استراليا مثلما فعل اسم بطرس عنداري. ولم "يوفق" كاتب في اثارة الجدل وردود الفعل حول افكاره الاجتماعية والسياسية والثقافية مثلما حصل مع ابي زياد. ولذلك يتعذر تناول كتاب "كي لا ننسى" من دون التطرق الى شخصية الكاتب واخلاقياته واسلوبه في التعاطي مع الآخرين ومدى تأثيره عليهم، سواء في انطباع قد يتركه، أم في أحقية آراء قد يطرحها كتابياً أم شفهياً ومقارنتها مع تصرفاته كواحد من اهم النقاد، ليس استرالياً وحسب وانما لبنانياً وعربياً.
عندما ألتقيته للمرة الأولى في مكتبه في دالويتش هيل منذ ما يناهز الـ25 عاماً، تعرفت عن كثب على كاتب مخضرم تلونت شخصيته باخضرار واقعيته وطيبته "القروية" وصراحته المتوازنة وبساطته العميقة بفلسفتها الحياتية. ومنذ ذلك الحين، زادتني الظروف معرفة بابي زياد وفكره وشخصيته وصفاته التي ضاعفت من احترامي له ومحبتي. فبطرس عنداري واثق من نفسه، حضوره محبب، راسخ في مبادئه، واضح في نظرته، هادئ، خفيف الظل، واسع الاطلاع والثقافة، جريء من دون حوربة، يكره الجدل العقيم، قليل الكلام عندما لا يروق له اسلوب النقاش وسخريته المهذبة لا توفر الكثيرين.
قد تكون "مشكلة" بطرس عنداري انه لم يعشق مواقع قيادية مصطنعة ليست سوى وجاهات فارغة من اي مضمون مفيد، لذلك حافظ على ثورية تفكيره وارادته الساعية الى تغيير مفاهيم موبوءة ادت الى تفتيت المجتمع وشل قدراته. ومشكلته الاخرى تكمن في كونه ناقد حقيقي لا يحب المجاملة ولا يجود في توزيع شهادات المديح والاطراء على الاصحاب والزملاء والرفاق في سبيل تببيض الوجه.
ثلاثة توجهات ميّزت كتابه "كي لا ننسى". اولها انقلابه الواضح والمنظم على ذهنية المبالغة التي تتحكم بأقوال الشرقيين وتصرفاتهم وتقاليدهم. فيكتب مثلاً في "انه وطني.. انه لبناني": "... هذه امور شبه عادية في هذا العصر المميز بالخداع والمظاهر الفارغة واطلاق الاقوال المعسولة التي تعني فعلياً ما لا نؤمن به ونعمل من اجله. وبتنا ندل بالاصابع على بعض الاوفياء المهذبين المتمسكين ببقية من اخلاق ونتهمهم غالب الاحيان بالسذج والبسطاء"...
وثاني تلك التوجهات مناهضته اساليب المجاملة. فيقول في "الخيانة تحولت تراثاً": "لو خيرت بين متمسك بعقيدة اكرهها وبين تقي مجامل يتحين الفرص ويحاول ارضاء كل فرد يلتقيه لاخترت العلاقة مع الاول بسرعة".
وثالثها امتعاضه من ممارسات "قيادات" صورية وهمية نصّبت نفسها وصية على جالية مشرذمة باتت عرضة لكافة انواع الاتهامات فيصرخ في "جالية تمثيل لبنان": ".. وكل هيئة وكل شخص يدعي بانه المرجع الوحيد للجالية والممثل الشرعي المعترف به للارزة الخالدة، ومن لا يوافق على ذلك ينزل الى ساحة "التباطح" وكل جهة تعتبر الآخرين مراوغين، عملاء، يكرهون لبنان، انانيين لا يمثلون سوى انفسهم".
وبطرس عنداري لم يكتب الا من اجل رسالة تطوير المجتمع وتحسين احواله، وهو الذي لم يتردد طوال حياته في مد يد العون لكل انسان موهوب وتشجيعه على ابراز مواهبه وارشاده الى الدرب السليم ومنحه الثقة والاحترام والصداقة الصادقة.
اليوم، ترحل يا ابو زياد لكننا لن ننساك وكيف لنا ذلك وما زالت جلساتنا معك راسخة في عمق أعماق وجداننا. أذكرك يا أستاذي وانت اول من دعمني ونشر لي مقالة في صحيفته، وانت من كان لي شرف العمل معه في الجبهة العالمية لتحرير لبنان وفي إعداد "الملف اللبناني" وفي العديد من المجالات الثقافية. وكيف أنسى فضلك في الأشراف على كتابي "يوسف بك كرم الأمير الثائر" وتقديم كتابي "تجربتي مع التيار". وكيف لي ان أنسى ارشاداتك التي ساهمت في تطوير عملي في الشأن العام.
اليوم، تترجل يا استاذ بطرس، يا فارس الكلمة الراقية، لكنك ستظل دوماً في القلب وفي البال، وستظل أقلام الوفاء والانسانية تكتب اسمك ومسيرتك بأحرف النور والمعرفة التي كرّست حياتك من أجلها.
0 comments:
إرسال تعليق