عظة سيادة المطران أنطوان - شربل طربيه راعي أبرشية أوستراليا المارونية في القداس الإلهي لراحة نفس الشاعر الدكتور سعيد عقل، ونذكر معه الفنانة صباح والفنانة نهاوند
السبت ٦ كانون الأول ٢٠١٤ - كنيسة مار شربل، بنشبول
حضرة القنصل العام الأستاذ جورج بيطار غانم،
الآباء الأجلاّء والأخوات الراهبات الفاضلات،
أيّها الأخوة والأخوات بالرب يسوع،
تحتفل كنيستنا المارونية غدًا بأحد مولد يوحنا المعمدان بحسب الأزمنة الطقسية واللّيتورجيّة استعدادًا لعيد الميلاد المجيد.
ومولد يوحنا يحقّق الوعد لأن فيه نرى تجلٍّ لرحمة االله التي تغمر البشرية جمعاء، وقد ظهرت في هبة الولد لزوجين عاقرين افتقدهما الله برحمته. أما عودة النطق إلى زكريا فهي علامة أخرى بأن وعودَ رحمة الله تتحقق في أوانها. وإذ كان مولد يوحنا السابق هو إعلان للرحمة الإلهية، فلا بدّ لنا من أن نقف متأملين بهذه الرحمة التي ستحمل اسمًا في التاريخ هو يسوع المسيح. ومن هنا تبرز دعوة المسيحيين، أتباع يسوع المسيح لأن يحملوا رسالة الرحمة والمحبة والسلام إلى العالم وخصوصًا إلى مناطق النزاع والحروب.
في هذا الإطار نفهم سر الأديب والشاعر الدكتور سعيد عقل، شاعر لبنان الحلم والعنفوان والجمال، إبن زحلة العزيزة. والذي نصلّي اليوم لراحة نفسه والكلّ يشعر بالخسارة الكبيرة، لكن نتاجه الغزير والعظيم – شعرًا ونثرًا وقصائد ومسرحيات – فيه فعل رحمة خالدة تبقيه حيًا في العقول والضمائر والقلوب جيلاً بعد جيل.
يعود المرحوم سعيد عقل إلى بيت الآب السماوي عن عمر مئة وسنتين، وقد أغناها بما حباه الله من نبوغ وما اقتنى من ثقافة واسعة، شملت قراءته لروائع الأدب والتراث العالمي شعرًا ونثرًا، وتعمّقه في اللاهوت المسيحي، ودرسه لتاريخ الإسلام وفقهه حتى غدا طليعة المثقفين في بلدان الشرق الأوسط.
مسيرته الفكرية انطلقت في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي وهو ما يزال دون العشرين من عمره، فقد كتب الكثير من المقالات الصحفية بجرأة وصراحة، وعلّم في المدارس والجامعات بشغفٍ وبلاغة، ولا مجال الآن لتعداد سلسلة كتبه ومسرحياته ودواوينه الشعرية وقصائده الخلاّبة، إنّما لا بدّ لنا من أن نتوقف عند الغاية الأساسية من أعماله وقد كان يردّد دومًا: هدفي أن تكون بلادي شيئًا عظيمًا فالبلدان ليست بالكبر بل بالجودة. فإلى جانب حبّه للشعر والأدب كان حبّه الخالص والمخلص للبنان وقد أعلاه إلى قمم الأوطان حين قال: أحب لبنان أكثر من نفسي. وكما قال صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في رثائه – أنه كان يعتبر لبنان وطنًا غير عادي: فكم نقب في تاريخه السحيق والوسيط مكتشفًا العباقرة الكبار الذين يعرفهم العالم ولا يعرف أنهم من مدن الساحل اللبناني القديمة: قدموس أبو الأبجدية، موخوس مكتشف الذّرّة، أقليدس سيّد الهندسة وبيتاغوروس عالم الرياضيات، وسواهم ممن بنوا أعمدة المعرفة والحضارة في العالم القديم فضلاً عن مدرسة بيروت أمّ الشرائع.
سعيد عقل هو الرحمة التي حلّت على عالم الشعر والأدب، فكان النهضة والثورة التي أعلت مداديك الحضارة الإنسانية في شرقنا ورفعت من شأنها. ولكنه عندما سُئل عن بداية حياته قال: "بدأت بقراءة الّلاهوت الذي هو أعظم من الفلسفة، وأعظم من العلم، وأعظم من الفن؛ ورغم حبي لهذه الأمور، فإن حب اللاهوت أكبر..." وختم قائلاً: "أنا أتعبد للمطلق الذي هو الجودة والجمال، إنّما النقص والبشاعة فيوجعانني!"
فحياة سعيد عقل الشاعر والأديب كانت إسهامًا كبيرًا في بناء الثقافة والعلم والأدب ولكن في الوقت عينه، كانت استعدادًا وتوقًا لرؤية الجمال الإلهي الفائق. ولذلك صلّى وتركها لنا صلاة ننشدها في كنائسنا:
أعطنا ربِّ قبل كل عطاء أنّ نحطّ التفاتة في سناك
كلّ ما دون وجهك الجمّ وهم أعطنا ربِّ أعطنا أن نراك
ومع صلاتنا لراحة نفس الشاعر والأديب العملاق والمؤمن المصلّي المرحوم الدكتور سعيد عقل، نذكر في صلاتنا وقدّاسنا أيضًا المرحومة الفنانة صباح، التي تركت هذه الدنيا وما زال صوتها الرائع حيٌّ على مدى الأثير. غاب وجهها ولكن ابتسامتها العريضة باقية في حنايا الفن والعطاء. انها جانيت الفغالي ابنة بدادون ووادي شحرور والمعروفة شعبيًا بصباح، والتي أضحت فنانة كبيرة بلغت ذروة المجد في لبنان والعالم العربي ودنيا الإنتشار، وقد تربعت على عرش الفن ثمانين عامًا، فكانت النجمة المشعة والمتألّقة في تواضعها وشفافيّتها وصدقها، فعاشت غنيّة بالفن والعطاء والغناء وماتت فقيرة بوداعة وبساطة، مجدّدة إيمانها بالرحمة الإلهية.
ولا بدّ لنا أيضًا من أن نتوجّه بصلاتنا إلى الله، إله الرحمة والمحبة والرجاء، طالبين منه أن يتغمّد بوافر مراحمه المرحومة لارا كيروز ابنة بشرّي والمعروفة ب"نهاوند"، التي لو توفرت لها ظروف أفضل في الحياة لكان لها شأن أكبر ونتاجات أغزر بما حباها الله به من موهبة صوتية رائعة.
ولأن بحر الصلاة واسع للجميع ولأن من تركونا في الأسبوعين الماضيين لهم موقعهم في قلوبنا وحياتنا، فإلى جانب العمالقة الثلاث الذين رحلوا من لبنان إلى دنيا البقاء، نصلّي أيضًا إلى المرحوم Phillip Hughes لاعب الكريكيت الأوسترالي الذي خسرته أوستراليا والرياضة بحادث مؤسف مؤلم عن عمر 25 سنة... تعزيتنا القلبية لأهله ولعالم الرياضة ولأوستراليا وطننا الحبيب.
فصلاتنا في هذا المساء هي صلاة الرجاء ضارعين لله لكي ينتقلوا جميعًا بسلام إلى رحاب الجمال الإلهي في الملكوت السماوي وليجد العزاء كل الّذين حزنوا لرحيلهم وبخاصة جاليتنا اللبنانيّة والعربيّة هنا في أوستراليا، ومع سعادة القنصل العام والرابطة المارونية ومركز الدراسات في أبرشيتنا نجدّد رجاءنا بالحياة الأبدية مردّدين كلمات الإيمان مع الشاعر سعيد عقل قائلين: "ما أحلى من يسوع إلاّ رؤية يسوع." آمين.
الصور من ايلي كلتوم
0 comments:
إرسال تعليق